هَيَا، إبنة أختي ذات الثلاث أعوام, أخذت مني كتاب "ما وراء الخير والشر” للفيلسوف نيتشه ثم فتحته وتظاهرت بالقراءة. قالت: “جاء الذئب وطرق الباب. سألتْه الطفلة: مين؟ قال: أنا بابا. فلما فتحتْ له الطفلة قال: مقلب! أنا الذئب. تتوقعون إيش صار بعدها؟” ثم أغلقت الكتاب، وأطلقت زئيرًا، وانقضّت عليّ وخنقتني تمثيلًا لنهاية الرواية.
كنت شاكّ ان هالطفلة فيلسوفة, الحين تأكدت.. وإليكم الاسباب:
تحليل فلسفي لقصة هيا
اولاً: انفصال الدال عن المدلول.
قبل فترة, كنا انا وصديقي في دائرة حكومية توقّفت فيها معاملتنا. المسؤول الأعلى قال: “صحيح إننا في نفس المبنى، بس بتاخذ أسبوع, لفّ على الإدارات وارجع لي للاعتماد النهائي”. هزّ صديقي رأسه، وقبل أن نخرج سأله: “المعذرة، أنت أبو مَن؟” قال المسؤول: “أبو غادة”. خرجنا نمرّ على الإدارات، وكلما دخلنا على موظف قال صديقي: “جيناكم من مكتب أبو غادة”. الأبواب فُتحت، والأختام تساقطت، واليوم الواحد ابتلع أسبوعًا. بعد أن انتهينا سألته: “تعرف أبو غادة؟” ضحك وقال:
”لا تدخلنا في ميتافيزيقا يا زايد؛ أنا ما كذبت.. هم ظنّوا أني أعرفه”. الكنية كانت الدالّ الكافي لفتح الأبواب. أمّا حقيقة المعرفة فمدلولٌ نسبي.
في مسرح هيا, كان الطارق اسماً قبل ان يكون إنسانا, عندما أجاب الطارق “انا بابا” كفّت الطفلة عن الحذر للحظة وفتحت الباب قبل ان يُطابق القولُ الفعلَ. هيا فصلت, ببساطة وعبقرية, بين الدال والمدلول. بين الأسم والمسمّى. كما في مشهد هيا, كذلك في المجتمع وعالم الأعمال, دائما تُفتح الأبواب, وتُفرش السجّادات الحمر للأسماء الرنّانة, فننحاز للدال اكثر من المدلول, الى اللقب اكثر من الحقيقة التي يثبتها. لهذل أرى ان يجب ان نطرح على انفسنا هذا السؤال عند كل محطة في مسارنا المهني: هل نعمل لكي نكون؟ ام لكي نُسمّى؟.
ثانياً: المسؤولية
هل كانت الطفلة متردّدة عندما فتحت للذئب؟
عند الفيلسوف الوجودي سارتر، التردّد قبل فتح الباب لا يكفي وحده لوصف الحالة بـ”سوء النيّة”. فـ “سوء النيّة” ليس مجرد الشكّ ثم الفتح، بل هو أن تعي ضمنيًا أن أمامك بدائل وأنك حر في الاختيار، ثم تهرب من هذا الوعي بتبريرات خارجية: لقب مطمئن، عرف اجتماعي، ضغط وقت، أو خوف من أن تُوصَف بأنك “شكاك” من والدك الخ.., هذا ما يسمّيه سارتر خداع الذات: أن تتصرّف كأنك مُجبَر، مع أنك اخترت.
وجوديا: سؤال “مين؟” لحظة قلق وجودي اصيل. لكن الفتح قبل التحقق يحول القلق إلى مجرّد إجراء شكلي. المسؤولية هي أن تمنح القلق وقته الكافي ليصير تحققا. المسؤولية هنا ليست جلدًا للذات، بل ترقية للحواس: ألّا نمنح الأسماء امتياز المرور دون اختبار.
*بالمناسبة, نيتشه -مؤلف الكتاب الذي كانت تتظاهر انها تقرأ منه- دائماً لا يسأل: “من المخطئ؟” بل: “ماذا يفعلُ هذا الفعل بالحياة؟”.
فيلسوفة في الثالثة من عمرها
ما جعلني أتيقّن أن هيا فيلسوفة وجوديّة بالفطرة أمران:
1-انتقال هيا من قارئة إلى مؤلفة: أولوية الفعل الخلّاق على النص.
2-ختم القصة بيدها: امتلاك المصير السردي ومسؤولية الخاتمة.
ثم إن هيا فهمت كتاب ماوراء الخير والشر, ثم ترجمت بعض اطروحاته بسردية روائية عبقرية, ولكل من يشكّك في كلامي هذا بحجة ان هيا لم تبلغ الرابعة بعد! احب ان اقولك انها لا تكترث برأيك.
في النهاية
لو سمعت هيا مني هذا الكلام, لخنقتني مرة اخرى, وقالت: زايد, كم اكرهك عندما تقول كلاماً لا أفهمه.