الأسبوع الماضي قضيت عشرين ساعة أعمل فيها كأمين مكتبة داخل أكبر مكتبة في السعودية: مكتبة الملك فهد الوطنية.
أمين المكتبة: الشخص المسؤول عن تنظيم وإدارة المكتبة: ترتيب الكتب, مساعدة القرّاء في العثور على المراجع, والإشراف على استعارة الكتب أو المواد الأخرى. -اقرب ترجمة حصلتها لكلمة Librarian-.
عملي في المكتبة كان تعاونا مني مع فريق المكتبة بدون مقابل, وإليكم بعض الأسباب التي دفعتني لذلك:
١- العمل بصورته المجرّدة
في وسط فترة ثقيلة, مليانة بالمفاوضات, الإيميلات الحساسة, بالتوقعات المالية وبالتحليلات, بالاجتماعات اللي كل كلمة فيها محسوبة… أحتجت شي مختلف.
أحتجت أشتغل عمل بدائي, يرهق ظهري بدل عقلي. ما فيه ذكاء ولا براعة لغوية ولا حسبة دقيقة. مجرد أنقل 150 رفّ مليان كتب قديمة، أحتجت اني أطيح تعبان, لكن مرتاح.
في المكتبة, العمل ما له علاقة لا بمستقبل ولا بماضي. ما فيه وعود بصفقة قادمة ولا محاولات لتصحيح أخطاء قديمة. هو عمل للحظة. عمل لأجل العمل.
٢- العمل كفلسفة
أنا أشوف إن العمل, في جوهره, لغة. طريقة يعبر فيها الأنسان عن ذاته.
في بدايات كل رائد اعمال، -او أغلب روّاد الأعمال- يكون دافع العمل لديهم هو الجوع: جوع معرفة، جوع فلوس، جوع هوية, جوع مكانة اجتماعية الخ.., لكن بعد عدة سنوات في عالم الأعمال, وبعد ان يشبع رائد الأعمال حدّ التخمة من بعض الأمور التي جاع منها -او كلها- يتغيّر كل شيء. يصبح رائد الأعمال يعمل عشان يعبّر عن تفكيره, عن فلسفته, عن ثقافته, عن معرفته, عن هويته, عن فنّه, عن الطريقة التي يرى بها العالم, وعن الطريقة التي يريد من العالم ان يراه بها.
وفي إعتقادي, أن فعل كل انسان تجاه أمر معين يجب أن يكون منطلقًا من مفهومه تجاه هذا الأمر, لو سألتني: هل اللي قاعد أسويه في حياتي العملية/المهنية صحيح؟ كنت بجاوبك بسؤال: هل اللي قاعد تسويه في حياتك العملية ينطلق من مفهومك الخاص والخالص تجاه العمل/المهنة؟.
عشان كذا قررت أكون في المكتبة. لأذكّر نفسي بأن العمل يكون لأجل المفهوم الميتافيزيقي والمتجاوز عن العمل, وليس لأجل اشباعات مادّية مؤقته.
٣- العمل في الأدب
من يوم عرفت نفسي، المكتبات بالنسبة لي مصدر شحن. نهاية أسبوع ثقيل أو قبل أسبوع مهم، أروح جرير، أقلّب الكتب، أشم ريحتها، وأطلع بعشرة كتب جديدة.
لكن كأمين مكتبة، التجربة غير. كنت أرتب رفوف الأدب، أنقل طبعات نادرة لنجيب محفوظ، كامو، وديستويفسكي. وأحياناً أجلس بينهم وأقرأ.
بالنسبة لي, المهمة ماكانت نقل اكثر من 150 رف, بل إتصال “شاعري” مع اكثر من 5000 كتاب ورواية قديمة.
في النهاية
التجربة تذكّرني إن العمل له ثلاث وجوه: وجه بدائي يعيدني للأصل، وجه فلسفي يربطني بمعنى وجوديّ خالص، ووجه أدبي يفتح أبواب تطوير الفكر والتسامي.
هل تعلم
أن مكتبة الملك فهد الوطنية تضم اكثر من مليوني كتاب و وثيقة؟